الثلاثاء، 13 يونيو 2017

استدرك يا أخي ما قد فاتك في الدفاع عن دينكَ ووطنك، فقد فاتتك مواطنُ صالحة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،،، وبعد:

فإن للإسلام علينا حقّاً أن نذبّ عنه، وندافع عن حِماه كلّ مُعتدٍ يُريد أن يُشوه سماحته، أو يُلصق به ما ليس فيه من صور الإرهاب والعنف.

وإن لوطننا حقًّا علينا كذلك بالذّبِّ عنه، والدفاع ِعن حماه، أكّدته الفطرة والعقل وديننا الإسلامي أيضاً، بل ورتب عليه أجراً وثواباً عظيماً.

 وهذا الدفاع كما يكون بالسيف والسنان؛ يكون بالقلم واللسان، وإنّا لنحمدُ الله تعالى أن سخّر من عباده من خاض غمار هذا الميدان -أعني: ميدان القلم واللسان- يُدافعُ عن دينه ووطنه ببسالة منقطعة النظير، يبذل فيه وقته وجهده، محتسباً الأجر من الله تعالى، لا يُريد رياء ولا سُمعة.

وإنّ خير ما نخاطب به ذوي العقول السليمة، والأقلام السيالة، الذين لا يزالون بين متردد عن الإقدام في الدفاع عن الدين والوطن، وبين محجمٍ يرى أنْ لا حاجة له أصلاً في اللحاق بهذا الركب؛ فلذا نوَجّه الخطاب والعتاب لمن كان هذا شأنه فنقول له: 

"استدرك يا أخي ما قد فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة"

نعم، لقد فاتك من الخير العظيم، والأجر الكبير، الشيء الكثير، لأنّ الدفاع عن الدين والوطن، من خير المواطن التي تُبذل فيها الأوقات، ويُستنفذ فيها الجُهد.

وقف معي أخي الكريم مع هذه العبارة: "استدرك يا أخي ما قد فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة"، فقد كان لها شأنٌ عظيمٌ في إسلام سيف الله المسلول؛ خالد بن الوليد رضي الله عنه.

فإن الوليد بن الوليد رضي الله عنه  - وهو أخو خالد - لـمّا دخل في الإسلام بعد غزوة بدر الكبرى، .. أراد لأخيه خالد بن الوليد أن يَدخل معه في الإسلام ويلحقَ بركب المسلمين، فقال له هذه العبارة: اسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ.

وقد كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قائداً من قادة الحرب عند قريش، فلما صالحَ النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً بالحديبية قال في نفسه: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ أَيْنَ الْمَذْهَبُ؟
 إِلَى النَّجَاشِيِّ؟ فَقَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ.
فَأَخْرُجُ إِلَى هِرَقْلَ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِي إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ، فَأُقِيمُ فِي عَجَمٍ تَابِعًا.
أَو أُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ؟

فكتبَ له أخوه الوليد كتاباً فقال فيه: 

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَقْلُكَ عَقْلُكَ! وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ؟! وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْكَ، وَقَالَ: (أَيْنَ خَالِدٌ؟) فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَحَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ). فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَتكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ].

فنشط خالد رضي الله عنه للخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاده رغبة في الإسلام سُؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.

فلمّا عزم على الخروج قال في نفسه: مَنْ أُصَاحِبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فلقي فيمن لقي عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، قال فقلتُ: إِنَّ هَذَا لِي صَدِيقٌ، فَلَوْ ذَكَرْتُ لَهُ مَا أَرْجُو ..
فعرضَ عليه رَغبته في الإسلام، فَأَسْرَعَ عثمان الْإِجَابَةَ وَقَالَ: إِنِّي غَدَوْتُ الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ ..
فلمّا خرجا وجَدا في طريقها عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فسألهم عن سبب خروجهم فقالا: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فقَالَ لهم: وَذَاكَ الَّذِي أَقْدَمَنِي -رضي الله عنهم.
فذهبوا جَمِيعًا حَتَّى دخلوا الْمَدِينَةَ. 

قال خالد: فَأُخْبِرَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسُرَّ بِنَا، فَلَبِسْتُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِي، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَنِي أَخِي - الوليد - فَقَالَ: أَسْرِعْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُخْبِرَ بِكَ، فَسُرَّ بِقُدُومِكَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ.

فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. 
فَقَالَ: (تَعَالَ).
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ).. ([1]).

فتأمل أخي الكريم حِرص الوليد بن الوليد على أخيه خالد رضي الله عنهما للدخول في الإسلام، وكذلك فليكن همك إرشاد إخوانك وهدايتهم لكل خير.

وتأمل موقف خالد رضي الله عنه، ومحاسبته لنفسه، واستماعه لصوت الحكمة والعقل، فإن الحقّ أبلج، وإن الباطل لجلج، فانقاد للحق البين، وترك ما كان عليه من باطل، فإن هذا الانقياد لا يزيد العبد إلا رِفعة وعلواً.

وتأمل فِعلَ خالد رضي الله عنه حين عرفَ الحقّ؛ حيث أراد لغيره الخيرَ فنَصَح عثمان بن طلحة فرافقه إلى ذلك الخير، ثم رافقا عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإن الإنسان ضعيف بنفسه قويّ بإخوانه، فآزر كل منهم أخاه، وغدوا جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلموا فحسن إسلامهم، فكذلك كُن - أخي الكريم - انظر لمن حولك، وصاحب الأخيار، وتقوَّ بإخوانك، فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية.

أخي الكريم، يا مَن لا زلت مُحجماً عن الدفاع عن دينك ووطنك، بعد كل الحقائق التي تَكشّفت، وكل البراهين التي سطعت، سَلْ نفسك ما سأله خالد بن الوليد لنفسه: أيّ شيءٍ بقي؟ إلى أين المذهب؟ 
أما آن لقلمك أن يخط؟!
 أما آن لصوتك أن يُسْمَع؟! 
وأقول لك: دينكُ ووطنك في حاجةٍ إليك، ونهجُ الإمارات وسياسة قيادتها أنصعُ من البياض، فكان حقًّا على مثلك أن يحافظ على سُمعتها نقيةً من تشويه الحاسدين، سليمةً من تدنيس المرجفين، وتُثبت وقوفكَ مع قيادتكَ ووطنك فإن ذلك من أعظم مقاصد الشريعة، فإننا لم نرَ أعجبَ من عزوفك عن هذا الواجب رغم ما حباك الله به من عقل راجح، وقلمٍ سيّال! ومثلُ هذا الخير ما جهله أحدٌ حتى لا تزال تبقى في إحجام وتردد؟! 
أينَ حقّ الإسلام عليك؟ 
أين حقّ وطنك عليك؟
 فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَتكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ.


وكتبه: علي سلمان الحمادي
الثامن عشر من شهر رمضان عام 1438هـ




[1] القصة بتمامها أخرجها البيهقي في دلائل النبوة (4/349)، وابن كثير في البداية والنهاية ط هجر (6/ 405).

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

محبة النبي ﷺ وعلاماتها

محبة النبي وعلاماتها
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،،، أما بعد
فإن محبةَ النبيّ  فرض على هذه الأمة، باتباع سنته، وامتثال أمره، والذبّ عنه، وحماية جنابه ، ولقد جعل الله تبارك وتعالى محبةَ نبيه علامة على صدق محبةِ الله تعالى، فقالَ عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
وقد جعلَ النبِيُّ  محبتَهُ عنواناً ودليلاً علَى صِدْقِ الإيمانِ باللهِ تعالَى فقَالَ : (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)([1]).
صور من محبة الصحابة لرسول الله 
لقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع المثل في تحقيق هذا المعنى، فكانُوا أشدَّ الناسِ حُبًّا لهُ، وتعظيمًا لقدْرِهِ، وإجلالاً لشخصِهِ، وحِفْظًا لِمَقامِهِ، فها هو عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يقول لرسول الله : يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِى. فَقَالَ النَّبِىُّ : (لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ). فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِىُّ : (الآنَ يَا عُمَرُ)([2]).
وعَنْ ثوبانَ رض الله عنه أنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لأَكُونُ فِي الْبَيْتِ، فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي ومَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لاَ أَرَاكَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ حَتَّى نَزَّلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً([3]).
وهذا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ رضي الله عنه أَسَرَتْهُ قُرَيشٌ، فَقَالَ له أَبُو سُفْيَانَ: يَا زَيْدُ أُنْشِدُكَ اللَّهَ، أَتُحِبُّ أَنَّكَ الآنَ فِي أَهْلِكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، مَا أَحَبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا يُشَاكُ فِي مَكَانِهِ بِشَوْكَةٍ تُؤْذِيهِ وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنَ قَوْمٍ قَطُّ أَشَدَّ حُبًّا لِصَاحِبِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ لَهُ ([4]).
قال عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ)([5]).
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟) قَالَ: حُبَّ اللهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).
قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ : (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).
قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ ([6]).
هؤلاء هم أصحاب رسول الله ، ومواقفهم في شدة محبته وتعظيمه أكثر من أن تحصى.
حبّ النبي لأمته
لقد كان رسول الله حريصاً على أمته، ما ترك شيئاً من الخير إلا حثّ الأمة عليه، ولا علم شيئاً من الشر إلا حذرهم منه، وكان يدعو لهم ليلا ونهارًا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رأيت من النبي  طيب النفس، قلت: يا رسول الله! ادع الله لي. قال: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنَبِهَا وَمَا تأخَّرّ مَا أسرَّت وَمَا أَعْلَنَتْ)، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حِجر رسول الله  من الضحك، فقال: (أيسُرُّك دُعَائِي)؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقال: (وَاللَّهِ إنها لدُعوتي لأُمتي في كُلِّ صلاة)([7]).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ تَلَا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] الْآيَةَ، وَقَولَ عِيسَى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي) وَبَكَى .
(فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَاسْأَلْهُ مَا يُبْكِيهِ.
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ.
فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوؤكَ)([8]).
علامات محبة النبي
إنَّ محبَّة رسولِ اللهِ ﷺ لا تتحقق إلا باتباع هديه، وامتثال أمره ونهيه، فهو السبيل الأقوم الذي يبقى به العبد على الصراط المستقيم، وهوَ الزادُ الذِي يَبْلُغ بهِ جناتِ النعيمِ، ومن تمام محبته :
أولاً: تصديقه  فيما أخبر.
فلا يكون عند الإنسان تردد فيما أخبر به النبي  فهو الصادق المصدوق، وأمين الله على وحيه، فكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4].
ثانياً: طاعته فيما أمر.
وقد تقرر وجوب طاعته  بالكتاب والسنة، وقرن الله تعالى طاعته بطاعته في غير موضع من كتابه، ومن عصاه فقد عصى الله، ومن عصى الله فله نار جهنم.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾ [الأحزاب : 36].
ثالثاً: اجتناب ما عنه نهى وزجر.
قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر : 7].
وقال عليه الصلاة والسلام: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)([9]).
رابعاً: أن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
فلا يُبتدع في دين الله ما لم يأت به الرسول ، سواء كان عقيدة، أو قولاً أو فعلاً، وكل من ابتدع شيئاً من ذلك فقد كذب بشهادته ، لأنه زاد في شرعه ما ليس منه، وفي هذا يقول ربّنا عزّ وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31].
يقول الحافظُ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ الله: (هذه الآيةُ الكريمةُ: حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّةَ اللهِ وليسَ هو على الطَّريقةِ المحمَّديةِ: فإنَّهُ كاذبٌ في دعواهُ في نفسِ الأمر، حتى يَتَّبِعَ الشَّرعَ المحمَّديَّ والدِّينَ النبويَّ: في جميعِ أقوالهِ وأحوالهِ)اهـ.
فلابدَّ لنا إن أردنا إثباتَ محبَّتِنا له : أن نَحْذَرَ مخالفةَ هديِهِ وسنَّتِهِ، حتى لا نكون ممَّن قال فيهم رسولُ الله : (من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ) ([10]).
خامساً: ومن محبته عليه الصلاة والسلام، عدمُ الغلو فيه برفعه فوقَ منزلةِ الرسالةِ والعبودية في المدائحِ والإطراء، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ اللهِ ورسولُه)([11]).
قال له أنس رضي الله عنه: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا! وخيرنا وابن خيرنا! فقال رسول الله : (يا أيها الناس، قُولُوا بِقَوْلِكُم ولا يَسْتَجْرِينَّكُم الشيطان، أنا محمدٌ عبدُ الله ورسولُه، والله مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ)([12]).
وبعد بيان هذه العلامات فإنه من المتقرر عند أهل السنة والجماعة أنّ الزيادة على ما جاء به النبي  -أيّاً كان الفعل- من صلاةٍ أو قيامٍ، أو إحياء ليلة باحتفال أو ذكرٍ أو دعاءٍ، فإنه بدعةٌ في الدين، وضلالةٌ لم يفعلْها النبيُّ  ولا أصحابُه، وقد حذر النبي ﷺ من عواقب ذلك فقال: (تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ) قَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلَا يَصِلُونَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي. فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ، فَيَقُولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟) رواه مسلم.
وما أحسن ما قاله الإمام مالك رحمه الله تعالى حيث قال: "ما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون اليوم ديناً".
وما أحسن قول القائل: وكُلّ خيرٍ في اتباع من سلف // وكُل شرِّ في ابتداع مَن خلف.
فاللهم ارزقنا محبة نبيك، واقتفاء أثره واتباع سنته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كتبه: أبو عبد الله علي سلمان الحمادي
ليلة الأربعاء الخامس من ربيع الأول عام 1437هـ





([1]) رواه البخاري.
([2]) رواه البخاري.
([3]) الطبراني في الأوسط.
([4]) الطبقات الكبرى لابن سعد.
([5]) رواه مسلم.
([6]) رواه مسلم.
([7]) مسند البزار.
([8]) رواه النسائي.
([9]) متفق عليه.
([10]) متفق عليه.
([11]) رواه البخاري.
([12]) رواه أحمد.

الاثنين، 7 ديسمبر 2015

من أسباب جدب الأرض وانحباس المطر وهدي النبي ﷺ في الاستسقاء

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، خير خلق الله أجمعين، أما بعد
فإنّ حكمةَ الله تعالى قضت في خلقه أن يبتليهم امتحاناً لهم أو عقاباً.
فيبتليهم امتحاناً لينظر ما يصنعون، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31]، فالابتلاء هنا اختبارٌ لدرجة إيمانهم وصبرهم، فيتميز المؤمن عن الكاذب كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ [العنكبوت:2- 3].
وقد يبتليهم عقاباً لهم بسبب مقارفتهم للذنوب والمعاصي، فيظهر أثر ذلك بما يُجريه سبحانه وتعالى في الأرض من أنواع البلايا والمحن، فكل ذلك إنما يحصل بشؤم معصية بني آدم، كما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41].
وإن من أنواع الابتلاء الذي يُوقعه الله تعالى على عباده؛ جدبُ الأرض، وانحباس القطر من السماء.
وقد بين النبي ﷺ أن من أعظم الذنوب التي تحبس المطر هي منع الزكاة وعدم إخراجها لمستحقيها، فقال ﷺ: (وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا) ([1]).
وقد يكون انقطاع المطر بسبب عموم الذنوب والمعاصي التي تقع من بني آدم:
قال أبو هريرة رضي الله عنه: "إنّ الحُبارى لَتموتُ في وَكْرها من ظلم الظالم"([2]) ، والحبارى إنما تموت بسبب آثار انقطاع المطر من جدب الأرض وقلة الماء والكلأ.
وقال مجاهد: "إنّ البهائم تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدت السَّنة، وأمسك المطر؛ وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم"([3]).
وقال مُجَاهِدٍ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ [البقرة: 205] الْآيَةَ، قَالَ: إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ، فَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
وقال عكرمة في تفسير قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159]: "يَلْعَنُهُمْ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ يَقُولُونَ: مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ "([4]) .
قال  أبو إسحاق الشيرازي: إن المظالم والمعاصي تمنع المطر، والدليل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله [ابن مسعود] أنه قال: "إِذَا بُخِسَ الْمِكْيَالُ حُبِسَ الْقَطْرُ"([5]) .
قال ابن القيم معلقاً بعد أن أورد بعض هذه الآثار: "فلا يكفيه عقابُ ذنبه، حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له"([6]) .

العلاج والوقاية يحصل بعدة أمور:
فيجب على المسلمين أن يجتهدوا في رفع هذا البلاء إذا حلّ بهم وذلك:
أولاً: بالتوبة والاستغفار وترك الذنوب والمعاصي.
إذعاناً بالعجز والفقر، واعترافاً إلى الله بالتقصير والخلل، منكسرين له سبحانه وتعالى، مبتهلين إليه، راغبين فيما عنده عز وجل.
فإذا تم لهم كل ذلك فتح الله لهم أبواب رحمته، قال سبحانه وتعالى على لسان أنبيائه ورسله: ﴿وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [هود : 52].
وقال سبحانه وتعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) ﴾ [نوح : 10- 11]. ولا يكفي الاستغفار بالقول، بل لا بد من العزم على عدم العود، ورد الحقوق والمظالم. لأنها من أسباب حلول النقم، وقحط المطر قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾ [الأعراف: 96].
وقال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)﴾ [الجن:16].
ثانياً: اتباع هدي النبي ﷺ في رفع هذا البلاء بالاستسقاء، وهو طلب الغوث من الله تعالى، ويحصل إما بصلاة مخصوصة كهيئة صلاة العيد، أو بالدعاء في خطبة الجمعة.
أما صلاة الاستسقاء: فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ، فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ ﷺ، وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ).
ثُمَّ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ).
ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ، أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الْكِنِّ  ضَحِكَ ﷺ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَقَالَ: (أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)([7]) .
و الْكِنّ: هو ما يُجعل من المساكن ليُتقى به شدة الحر والبرد.
أما الاستسقاء في خطبة صلاة الجمعة فقد ثبت في السنة الصحيحة أن رجلاً دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ منْ بابٍ كانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ، ورَسُولُ الله ﷺ قائِمٌ يَخْطُبُ، فاسْتَقْبَلَ رسولَ الله ﷺ قائِماً ثُمَّ قَالَ: يَا رسولَ الله، هَلَكَتِ الأمْوَالُ، وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فادْعُ الله يُغِيثُنَا.
فَرَفَعَ رسولُ الله ﷺ يَدَيْهِ ثُمَّ قالَ: (اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أغِثْنَا).
قَالَ أنَسٌ: وَلاَ وَالله مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ ولاَ قَزَعَةٍ وَمَا بَيْنَنَا وبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ ولاَ دَار([8])، قَالَ: فَطلعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلَ الترْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أمْطَرَتْ فَلاَ وَالله مَا رَأيْنَا الشَّمْسَ سِتَّا.
ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذلِكَ البابِ فِي الجُمُعَةِ المقبلة ورَسولُ الله ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ فاسْتَقْبَلَهُ قائِما فَقَالَ: يَا رسولَ الله هَلَكَتِ الأمْوَالُ وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فادْعُ الله يُمْسِكْهَا عَنَّا.
فَرَفَعَ رسولُ الله ﷺ يَدَيْهِ ثُمَّ قالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وبُطُونِ الأوْدِيَةِ ومَنَابِتِ الشَّجَرِ).
قَالَ: فأقْلَعَتْ وخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ سألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ أهُوَ الرَّجُلُ الأوَّلُ فقالَ لا أدْرِي ([9]).
قال ابن بطال المالكي -رحمه الله تعالى- معقباً على هذا الحديث المتقدم: "فيه دَلِيل على أَن للْإِمَام إِذا سُئِلَ الْخُرُوج إِلَى الاسْتِسْقَاء أَن يُجيب إِلَيْهِ لما فِيهِ من الضراعة إِلَى الله تَعَالَى، فِي إصْلَاح أَحول عباده، وَكَذَا فِي كل مَا فِيهِ صَلَاح الرّعية أَن يُجِيبهُمْ إِلَى ذَلِك، لِأَن الإِمَام رَاع ومسؤول عَن رَعيته فَيلْزمهُ حياطتهم".

صفة الخروج لصلاة الاستسقاء:     
يخرج المسلم بتواضعٍ، وخشوع، متذللاً إلى الله تعالى، متضرعاً إليه أنْ يكشف ما حلّ بهم من بلاء، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (خرج النبي ﷺ متواضعاً، متبذلاً، متخشعاً، مترسلاً، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد)([10]).
متبذلاً: أي في ثياب رثة لا يتزين ولا يتطيب لأنه يوم تواضع واستكانة.
متخشعاً: في مشيه وجلوسه من الذل رامياً بصره إلى الأرض.
مترسلاً: غير مستعجل في مشيه.        
متذللاً: لله تعالى، خاضعاً له.
متضرعاً: مبتهلاً إلى الله تعالى في الدعاء مع حضور القلب.
ويُستحب أن يُخرج الإمامُ معه أهلَ الدين والصلاح، والشيوخ من كبار السن، لأنه أسرع لإجابتهم، والصبيان المميزون لأنهم لا ذنوب لهم، ولقوله ﷺ: (هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم)([11]).

صفة صلاة الاستسقاء:
صلاة الاستسقاء تُصلى ركعتان كهيئة صلاة العيدين، يُستحب أن تصلى في الصحراء، يكبر في الأولى سبع تكبيرات مع تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمس تكبيرات غير تكبيرة الانتقال. يبدأ بالصلاة ثم بالخطبة، وهو مذهب جمهور العلماء، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (استسقى النبي ﷺ فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا)([12]) .
يستحب فيها أن يرفع يديه في الدعاء لقول أنس رضي الله عنه: (كان النبي ﷺ لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وكان يرفع حتى يُرى بياض إبطيه)([13]) .
وظهورهما نحو السماء لحديث: (أشار بظهر كفيه إلى السماء)([14]) ، أي مبالغة في الرفع لا قصداً منه.
ويُسن أن ُيحوِّل رداءه: فيجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، لما في الصحيحين: أنه ﷺ حَوّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه. ولمسلم: حَوّل رداءه حين استقبل القبلة. ويفعل الناس كذلك. 
والحكمة من ذلك: تفاؤلاً بأن يُحوِّل الله الحال إلى الأفضل.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَدْعُو سِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَيَدْعُو النَّاسُ مَعَهُ، .. وَيَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَنَا بِدُعَائِكَ، وَوَعَدْتَنَا إِجَابَتَكَ، فَقَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَوْجَبْتَ إِجَابَتَكَ لِأَهْلِ طَاعَتِكَ وَكُنَّا قَدْ قَارَفْنَا مَا خَالَفْنَا فِيهِ الَّذِينَ مُحِضُوا طَاعَتَكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ مَا قَارَفْنَا، وَإِجَابَتِنَا فِي سُقْيَانَا وَسَعَةِ رِزْقِنَا».
وقال رحمه الله: "وَإِنِ اسْتَسْقَى فَلَمْ يُمْطَرِ النَّاسُ أَحْبَبْتُ أَنْ يَعُودَ، ثُمَّ يَعُودَ حَتَّى يُمْطَرُوا"([15]).
يعني يصلون الاستسقاء مرةً بعد مرةً حتى يُغيثهم الله تعالى. 

ما يستحب فِعله قبل الخروج إلى صلاة الاستسقاء
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "ويتأهب قبله بصدقة، وصيام، وتوبة، وإقبال على الخير، ومُجانبة للشر، ونحو ذلك من طاعة الله تعالى"([16]) .
- فيجب التوبة من جميع الذنوب والمعاصي، والإكثار من الاستغفار، فبالتوبة والاستغفار تُستَدَرّ الخيرات، وتُستمطر السماء.
- وينبغي على كل مسلم أن يتحلل من صاحبه إن كانت بينهما شحناء وخصومة، ويرد المظالم لأهلها، فإن الظلم والشحناء تمنع اندفاع النقم، وتأخر زوال المحن، والنبي ﷺ أخبر أن من الثلاثة الذين لا تُرفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: (أَخَوانِ مُتصارمان) ([17]) أي: متخاصمان، فالصلاة والدعاء لا يرتفعان مع التشاحن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا امْرَأً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ) قَالَ: (فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) ([18]).
- ويستحب الإكثار من الطاعات التي تجلب محبة الله للعباد كالصيام والصدقة، فإن الصائم مجاب الدعوة، والصدقة تطفئ غضب الرب. وكذلك إخراج الزكاة فقد تقدم في الحديث: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا).
- ومن الأدعية التي كان النبي ﷺ يدعو بها: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل) ([19]).
- (اللهم أسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت) ([20]).
- قال الشَّافِعِيُّ: رُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، مَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ:  «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا غَدَقًا مُجَلَّلًا عَامًّا طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ وَالْبَهَائِمِ وَالْخَلْقِ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَالْجَهْدِ وَالْفَتْكِ مَا لَا يَشْكُو إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ أَنَبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ، واكْشِفْ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفْهُ غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ، إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا» .. قَالَ أَحْمَدُ: وَقَدْ رُوِّينَا بَعْضَ، هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَبَعْضَ مَعَانِيهَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَكَعْبِ بْنِ مُرَّةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ ([21]).
- كما أوصي إخواني المسلمين بالمبادرة إلى صلاة الاستسقاء إذا أمر ولي الأمر بإقامتها، فإنه من المشاهد عزوف الناس عن أداء الصلاة، وخلو المساجد والمصليات من الناس، وكأن الأمر لا يعنيهم شيئاً. والله عز وجل يقول في محكم كتابه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].

وأتمنى من الجهات والدوائر والمؤسسات التكاتف والتعاون في هذا الأمر، بالسماح للموظفين وحثهم على أداء الصلاة -لا سيما إذا صادف وقتها يوم عمل- فإنه من التعاون على الخير والبِر والإحسان، وإحياء سُنّة خير الأنام ، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2].

اللهم إنا خلق من خلقك، عبيد من عبيدك، فقراء ضعفاء إليك، أكرمنا بواسع رحمتك، واشملنا بعظيم عفوك، وأنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تم الفراغ منه: ليلة السادس والعشرين من صفر عام 1437هـ
أبو عبد الله علي سلمان الحمادي



([1]) رواه ابن ماجه.
([2]) رواه الطبري في التفسير والبيهقي في الشعب.
([3]) رواه ابن وهب وابن أبي حاتم والطبري في تفسيرهم.
([4]) رواه الطبري في تفسيره.
([5]) المهذب في فقه الإمام الشافعي. والأثر رواه عثمان بن سعيد الداني في سننه، والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
([6]) الداء والدواء لابن القيم.
([7]) رواه أبو داود.
([8]) سلع: اسم جبل بالمدينة، والمعنى: أَن السَّحَاب كَانَ مفقودا لَا مستترا بِبَيْت وَلَا غَيره.
([9]) رواه البخاري.
([10]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
([11]) رواه البخاري.
([12]) رواه البيهقي في سننه.
([13]) متفق عليه.
([14]) رواه مسلم.
([15]) معرفة السنن والآثار للبيهقي.
([16]) المجموع شرح المهذب.
([17]) رواه ابن ماجه.
([18]) رواه مسلم.
([19]) رواه أبو داود.
([20]) رواه أبو داود.
([21]) رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار.