الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

سنن مهجورة (1)

سنن مهجورة (1)


الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على الرسول المصطفى، وعلى آله وصحبه أهل البر والهدى، ومن سار على نهجهم وسلك سبيلهم واقتفى،، وبعد

"إِنَّ السُّنَّةَ حِصْنُ اللَّهِ الْحَصِينُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ مِنَ الْآمِنِينَ. وَبَابُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْوَاصِلِينَ، تَقُومُ بِأَهْلِهَا وَإِنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَيَسْعَى نُورُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذَا طُفِئَتْ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَالنِّفَاقِ أَنْوَارُهُمْ" (1).

حال الناس مع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوت تفاوتاً عظيماً فمنهم من تجده يحرص عليها حرصاً شديداً وقليل ما هم، ومنهم من يفرط فيها ويتهاون في أمرها ولا يكترث لها، ومنهم من يعرض عنها والله المستعان.

والنبي صلى الله عليه وسلم رغب في إحياء السنة فقال:
(مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) رواه مسلم.
ولا شك أن من أحيى سنة من سننه صلى الله عليه وسلم فإنه يدخل في هذا الحديث، فكل من علمَ علماً أو عبادةً أو أدباً ونحو ذلك فإنه يحصل له ذلك الأجر العظيم.

وفي مقابل ذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مخالفة سنته فقال: (فمن رغبَ عن سنَّتي فليسَ مني) رواه مسلم.

وكان السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أشد الناس حرصاً وتمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمما أُثر عنهم في ذلك:
- قول أبو بكر رضي الله عنه: "لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ ، فَإِنِّى أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ" رواه البخاري ومسلم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم" رواه مسلم.
وقال الإمام ملك رحمه الله: السُّنَّةُ سَفِينَةُ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. 


وسأذكر في هذا المقال بعض السنن التي رأيت أنها من السنن المتروكة أو المتساهل فيها راجياً من الله تعالى أن يوفقني في بيانها، وأن يلهمني التوفيق والسداد. فمن تلكم السنن:

أولاً: الاغتسال بالصاع والوضوء بالمُدّ (2): 


ولا أعني في هذا الأمر أن يأتي كل واحد من المسلمين عند الاغتسال أو الوضوء بإناء فيه قَدْرَ الصاع أو قَدْرَ المُدّ من الماء ليتطهر به؛ وإنما المقصود هو بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الإقتصاد من الماء وعدم الإسراف فيه.

لقد ثبت في البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد

وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُجزئ من الوضوءِ المد، ومن الجنابةِ الصاع)
فقال رجل: ما يكفينا يا جابر.
فقال جابر: قد كفى من هو خيرٌ منك وأكثرُ شَعْراً. رواه أحمد وابن ماجه والحاكم في مستدركه وهذا لفظه.

ولما هجر الناس هذه السنة وقعوا في الإسراف والتبذير في استعمال الماء، وصار الناس عند الوضوء والاغتسال يهدرون الماء هدراً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ذلك من علامة قرب الساعة، فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قومٌ يَعْتَدُونَ في الدُّعاءِ والطُّهورِ) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه. 

ولا شك أن هدر الماء عند الاغتسال والوضوء هو من ذلك التعدي المذكور في الحديث. 

والصحابة رضي الله عنهم امتثلوا هذه السنة أيما امتثال، فعَنْ عَطِيَّةَ ، قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ تَوَضَّأَ مِنْ كُوزٍ وَأَفْضَلَ فِيهِ ، قُلْتُ : يَكُونُ مُدًّا ؟ قَالَ : وَأَفْضَلَ. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. 
ومعنى أفضلَ: أي، أبقى منه شيءً. 

أخي القارئ - وفقك الله - ينبغي عليك أن تتسمك بهذه السنة، وتحييها في نفسك وتعلمها أهل بيتك ومن حولك، فإن الماء نعمة أنعم الله بها علينا، ومن أسباب كفرانها هدرها والإسراف فيها، فإذا كان الشارع الحكيم نهى عن الإسراف في استعمال الماء عند العبادة؛ فما بالك بالإسراف فيه في الأمور المباحة وغيرها.

اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجلع لأحد فيها شيئاً


 ________________________________

(1) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.
(2) الصاع = 2 لتر تقريباً، والمد = نصف لتر تقريباً.

الاثنين، 16 أبريل 2012

الحكمة في الدعوة إلى الله


الحكمة في الدعوة إلى الله


الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى، وبعد
إن الدعوة إلى الله مطلب عظيم، وغاية سامية، أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لأجلها فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا () وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45، 46] فالله جل وعلى أرسله إلى الناس كافة يدعوهم إلى عبادة ربهم، ويُرشدهم إلى الصراط المستقيم، ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام.

أيها القارئ الكريم، اعلم وفقك الله لكل خير أن الدعوة إلى الله لا بد وأن ترتكز على دعامة عظيمة، وركن متين؛ حتى تستقيم وتؤتي ثمارها اليانعة، وهذه الدعامة هي الحكمة
والحكمة: هي الإصابة في معرفة الحق والعملِ به، والدقةُ في وضع الأمور في موضعها الصحيح.
وتتمثل أهمية الحكمة في كونها:
1. من أهم الأسباب والوسائل التي تستخدم في الدعوة إلى الله، فنجد أن الله جل وعلا لما أمر نبيه محمداً  صلى الله عليه وسلم  بالدعوة إليه سبحانه؛ أمره أن يبدأ دعوته بالحكمة فقال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل : 125].
2. ثم إن الناظر في سيرتهصلى الله عليه وسلم يجد أنه كان ملازماً للحكمة في جميع أموره، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً وذلك بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا النبي الحكيم الذي ملأ الله قلبه إيماناً وحكمة كما ثبت ذلك في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (فُرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريلُ ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي ..).
3. ومن أعطاه الله الحكمة، فقد حاز على خير كثير، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة : 269] وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدنيا والآخرة.
4. ولعظيم شأنها نجد أنها من الأمور التي يُحسد الإنسان عليها، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: (لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا).
[هلكته في الحق: أي أنفقه في وجوه الخير].
5. وقد ثبت عند البخاري من حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ ضمني النبي  صلى الله عليه وسلم  إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ). وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرآن ببركة دعاء النبي  صلى الله عليه وسلم .

إن الحكمة في الدعوة إلى الله لها أركان ودعائم لا تتحقق إلا بها وهي: العلم والحلم والأناة.
أما العلم: فهو أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾[محمد : 19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فدل على أن العلم شرط لصحتهما.
وأما الحلم: فلأنه صفة تقود صاحبها إلى ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب.
وأما الأناة: فهي مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وتقود صاحبها نحو التصرف الحكيم من غير عجلة ولا تباطؤ.
وقد مدح النبي  صلى الله عليه وسلم هذين الخلقين فقال لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله .. الحلم والأناة).

إن الحكمة في الدعوة إلى الله لها درجات ومراتب:
1. فتارة تكون باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاداً بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون.
2. وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع من يقبل الحق ويعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات وأهواء تصده عن اتباع الحق .
3. وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بحُسن خلق، ولطف، ولين كلام، وأن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد.
4. وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة : بالكلام الغليظ، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة. وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى ووقف في طريق الحق.

إذن الحكمة مهمة في مجال الدعوة إلى الله، لا بد أن يتحلى بها كل من أراد أن يدعو إلى الله جل وعلا، فمن خلالها يستطيع الداعية أن يقدر الأمور، ويضعها في مواضعها.
ومن خلالها يستطيع الداعية إلى الله أن يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يُؤتون من قِبَلِها.
فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح للحق صدورهم، فينقادون إليه، ويُذعنون إلى الصواب.

أيها الأخوة ينبغي على كل داعية ومعلم ومرب أن يتحلى بهذه الصفة العظيمة، حتى يكون موفقاً مباركاً في عمله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كونوا ربّانيّين حكماء فقهاء". [والرباني: الذي يعلم صغار العلم قبل كباره].
وأوصى وهب بن منبّه أحدهم فقال له: «يا بنيّ عليك بالحكمة، فإنّ الخير في الحكمة كلّها، وتشرّف الصّغير على الكبير، والعبد على الحرّ، وتزيد السّيّد سؤددا، وتجلس الفقير مجالس الملوك».

رزقني الله وإياكم الحكمة والفقه في الدين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وكتبه أخوكم: علي سلمان الحمادي

الجمعة، 24 فبراير 2012

بر الوالدين .. فريضة واجبة.. وأمر محتم


بر الوالدين .. فريضة واجبة.. وأمر محتم

بسم لله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد


جُبلتِ النفوسُ على حبِّ من أحسنَ إليها، وتعلقت القلوبُ بمن تفضل عليها، وليس في الناسِ أعظم إحساناً ولا أكثرُ فضلاً من الوالدين، من أجل هذا قرن الله حقهما بحقه، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36]، فله سبحانه العبادة والإخلاص، ولهما حسنُ الرعاية والإحسان، فالإحسان إليهما عظيم،  وفضلهما سابق.

بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين من أفضل الأعمال فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها). قال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين). قال ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) [البخاري]. 

إن برّ الوالدين فريضة لازمة، وأمر محتمٌ، وهو سَعةٌ في الرزق، وطولٌ في العمر، وحسنٌ في الخاتمة، فعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سرّه أن يُمدَّ له في عُمره، ويُوسّعَ له في رزقه، ويُدفعُ عنه ميتة السوء، فليتق الله وليصل رحمه) [أخرجه الحاكم]، ولا شك أن الوالدان أقرب الناس إليك رحما.

وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القضاء إلا الدعاء، وإن الرجل ليُحرم الرزقَ بخطيئة يعملها)[ابن ماجه].
فينبغي على كل مسلم أن يرعى للوالدين حقوقهما لينال هذا الفضل العظيم:
1. وإن من حقهما حسن صحبتهما: فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل من والديك أحد حي؟) قال نعم، بل كلاهما، قال: (فتبتغي الأجر من الله تعالى؟) قال: نعم، قال: (ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).
2. ومنها: أن لا تحدثهُما بغلظة أو خشونةٍ أو رفعِ صوت، وجنبهُما كل ما يورث الضجر، ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]، فتتخيّرُ الكلماتِ الحسنةَ اللطيفة، والعباراتِ الجميلة، والقولَ الكريم، وتتواضعَ لهما، وتخفضُ جناح الذل رحمة وعطفا، وطاعةً وحسنِ أدب.

3. وإن من حقهما؛ المحبةُ والتقديرُ والطاعةُ والتوقير، والتأدبُ والتودد إليهما وصِدق الحديث معهما. وأن تحرص على أن تُحقق رغبتهما في المعروف، وأن تُنفق عليهما ما استطعت، لأنك (أنت ومالك لأبيك)... فأنت مهما عملت فلن تؤدي حقهما: قال رجلٌ لعمرَ ابنَ الخطابِ رضي الله عنه: إن لي أماً بلغ منها الكبر؛ أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطيةٌ فهل أديةُ حقها؟ فقال له عمر: "لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءَك، وأنتَ تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن والله يجزي الكثير على القليل".
4. ومن حقهما: الدعاء لهما حال الحياة وبعد الممات، اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله تعالى ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]. والدعاء والاستغفار لهما باب عظيم من أبواب البر، لأن ذلك يرفع من درجة الأبوين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَنَّى هَذَا فَيُقَالُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ) [ابن ماجه].

5. ومن حقهما بعد الممات: ما أخبر به أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: فيما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بِرِّ أبويّ شيءٌ أَبرُّهما به بعد موتهما؟ قال: (نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصلةُ الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرامُ صديقهما) [أحمد وأبو داود وابن ماجه]. 

وليحذر اللبيب من مغبة عقوق الوالدين، فإن عاقبته وخيمة فإن من برّ بوالديه برّ به بنوه، ومن عقهما عقه بنوه، وكما تَدينُ تُدان، والجزاء من جنسِ العمل. 
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ الذنوبِ يؤخرُ الله منها ما شاء، إلا عقوقُ الوالدين، فإنه يُعجلُ لصاحبه قبل الممات)[أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي].

ومن عقوبة العقوق ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ‏ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى) [أخرجه النسائي].

فإنّ أكبر الكبائر الإشراكُ بالله وعقوقُ الوالدين، في هذا صح الخبرُ عن الصادق المصدوق محمدٍ صلى الله عليه وسلم. 

وثبت من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صعد المنبر فلما ارتقى درجة قال: «آمين»، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: «آمين» فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: «آمين»، فلما نزل قلنا: يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه قال: « إن جبريل عليه الصلاة والسلام عرض لي فقال: بُعدا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بُعدا لمن ذُكرت عنده فلم يصل عليك قلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بُعدا لمن أدرك أبواه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت: آمين». [الحاكم].

إذن أخي القارئ الكريم، أيقن وفقك الله؛ أن البرّ بجميعِ وجوهه زيادة في العمر، وسعة في الرزق، وصلاح في الأولاد، فمن بر بوالديه بر به بنوه، ومن عقهما؛ عقه بنوه، والعقوق خيبة وخسران وخذلان، وعقوبة في الدنيا والآخرة. 

الثلاثاء، 7 فبراير 2012

قيام ليل الشتاء.. غنيمة باردة



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد

أيها الأحبة: 

إنّ قيامَ الليل عبادة عظيمةٌ وعمَل جليل، دأبَ عليها الصالحون من هذه الأمة، ولزم القيام بها الصادقون من أهل هذه الملة، وقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحث عليها ببيان ما لها من فوائد وعوائد حميدة، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه دَأَبُ الصالحين قبلكم وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد" رواه الترمذي. 

وقيام الليل من أفضل الصلوات بعد الصلاة المفروضة فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: "أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة صلاة الليل" رواه مسلم.

وقد مدَح الله عبادَه المؤمنين، فذكر من أخلاقهم الحميدةِ التي نالوا بها بفضل الله جنّاتِ النعيم؛ أنهم كانوا يقومون الليل فقال: ﴿إنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّليْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 15-18]. فوصَفَهم الله تعالى بأنّهم قليلاً ما ينامون لإحياء ليلهم بالصلاة، ويختِمون ليلهم بالاستغفار عمّا قدّموا وأساؤوا.
وقال جلّ جلاله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة:16، 17]، لشدة خوفهم من الله عز وجل؛ تَنَحّت جنوبهم عن مضاجع نومهم، وتوجهوا إلى الله عز وجل في ظلمة الليل سراَ فيما بينهم وبينه بالصلاة والمناجة خوفاً من عذابه، وطمعاً في ثوابه، فأعطاهم الله ذلك الثوابَ العظيم، ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمِعت ولا خطَر على قلبِ بشر، ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.

وصلاة الليل عمل داوم عليه نبينا  صلى الله عليه وسلم ، وكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سُئل عن ذلك، وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً".

وقيام الليل عملٌ يُدخل الجنة، فقد ثبت من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه، أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: "أيّها الناس، أطعِموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّةَ بسلام" رواه الترمذي.

وأخبرَصلى الله عليه وسلم ما لقائمِ الليل في الجنّة من النعيم المقيم، فقال: "إنّ في الجنة غرفًا، يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها"، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لمن أطاب الكلامَ، وأطعَم الطعام، وصلّى بالليل والناس نيام" رواه المنذري في الترغيب والترهيب.

فلنبادر -أحبتي في الله- بالقيام بهذه العبادة الجليلة، ولنغتنم هذه الأجور العظيمة، لا سيما ونحن في فصل الشتاء، الذي يطول في الليل ويقصر فيه النهار، وقد كان سلف هذه الأمة يسبشرون بالشتاء لاغتنام ليله بالقيام، ونهاره بالصيام فهاهو ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام"
وعن الحسن  رحمه الله أنه قال: "ونعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه"

وقال ابن رجب رحمه الله: "قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف، ولهذا بكى معاذ عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر" انتهى كلامه رحمه الله.

فأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لاغتنام هذه الليالي، وأن يعمر أوقاتنا بطاعته وذكره وشكره وحسن عبادته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وكتبه أخوكم/ أبوعبد الله، علي سلمان الحمادي
ليلة الخامس عشر من ربيع الأول لعام ثلاث وثلاثين وأربعمئة وألف.
الموافق7/ 2/ 2012م

الاثنين، 30 يناير 2012

إنها فتنة .. ادفعوها بالتقوى

إنها فتنة .. ادفعوها بالتقوى

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد



في خضم ما نواجهه في هذه الأيام من فتن، وفي ظل ما نكابده من سهامٍ حاقدة على أهل العلم والأمراء(*)،  أود أن أساهم بقلمي في سبيل القضاء على هذه الفتنة، بدفعها وإطفائها بالتقوى.

اعلم أخي الكريم - وفقك الله لكل خير - أن التقوى كلمة كثيراً ما تتكرر على الألسنة، وكثيراً ما نسمعها من حولنا، فبين قائل: "اتق الله" أو قائل "ألا تتقي الله" أو "أوصيك بتقوى الله" ونحوها من العبارات.
فهل يُكرر الإنسان كلاماً لا يعقل معناه؟!لو تأملنا القرآن الكريم، لوجدنا هذه الكلمة كثيرة التكرار فيه، فمن ذلك قوله تعالى: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] [البقرة: 197].
[وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] [الأعراف: 26].
فما هي التقوى التي يقول الله لأهلها: [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا] الآيات [النبأ: 31 - 36].
ما هي التقوى التي مدح الله أهلها فقال: [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ] [القمر: 54، 55].
ما هي التقوى التي يقول الله فيها: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] [آل عمران: 102]. ويقول: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] [المائدة: 27]
ما هي التقوى التي يقول الله فيها : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] [التوبة: 119]، وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا] [الأحزاب: 70].


أيها الأحبة: إن حقيقة التقوى عَرّفها طَلْقُ بن حبيب وهو أحد الصالحين، عرفها تعريفاً محكماً جامعاً مانعاً، وذلك لما قامت فتنة ابن الأشعث عندما خرج على الحجاج بن يوسف الثقفي - وكثير منا يعرف هذه الفتنة - فالحجاج عُرف عنه أنه كان مستبداً ظالماً سفاكاً للدماء، وكان له قائد لجيشه يقال له ابن الأشعث، وكان قائداً محنكاً لا يشق له غبار، ولا يكاد ينهزم في معركة، وكانت بينه وبين الحجاج نفرة شديدة، كلّ منهما يُبغض الآخر بُغضاً شديداً. فما لبث ابن الأشعث أن خرج على الحجاج، وخلع البيعة من عبد الملك بن مروان، وكانت الجيوش معه، فوقعت بينهما حروب طاحنة، أزهقت فيها الأنفس، وأريقت فيها الدماء، فصار الناس في هرج ومرج.
فجاء الناس إلى طلق ابن حبيب يسألونه عن هذه الفتنة، فقال لهم: إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتَّقوى؛ قالوا: وما التَّقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على، نورٍ من الله، تخاف عقاب الله [مصنف ابن أبي شيبة].
قال ابن القيِّم معلقاً على هذا التعريف للتقوى: "وهذا من أحسن ما قيل في حدِّ التَّقوى" [الرسالة التبوكية].
وقال الذَّهبي: «أبدعَ وأوجز, فلا تقوى إلاَّ بعمل، ولا عمل إلاَّ بتروٍّ من العلم والاتِّباع, ولا ينفع ذلك إلاَّ بالإخلاص لله, لا ليقال فلان تاركٌ للمعاصي بنور الفقه, إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها, ويكون التَّرك خوفًا من الله, لا ليمدح بتركها؛ فمن داوم على هذه الوصيَّة فقد فاز" [سير أعلام النبلاء].
وقال ابن القيِّم كذلك: "فإنَّ كلَّ عملٍ لابدَّ له من مبدأ وغاية فلا يكون العمل طاعةً وقربةً حتَّى يكون مصدره عن الإيمان, فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض لا العادة ولا الهوى، ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك, بل لابدَّ أن يكون مبدؤه محضَ الإيمان وغايتُه ثوابَ الله وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب" [الرسالة التبوكية].
فقول طلق رحمه الله: "عمل بطاعة الله" معناه أن كل ما كان داخلاً في مسمى الطاعة؛ فإنه داخل في التقوى.
وقوله: "على نور من الله" أي أن تكون هذه الطاعة مبنية على علم وبصيرة، والعلم هو نور من الله، قال تعالى: [قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ] [المائدة: 15].
ومن عمل عملا بلا علم، أو على غير هدى فإن ذلك مردود عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه مسلم.
وحقيقة العلم هي ما كان نابعاً من الكتاب والسنة، على فهم سلف هذه الأمة، لا على فهم أهل الزيغ والهوى:
العلم: قال الله قال رسوله *** قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين الرسول وبين رأي فلان


إن العلم الصحيح هو الذي يجر إلى عمل صالح، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والخير والسعادة والكمال والصلاح منحصر في نوعين: في العلم النافع والعمل الصالح" [مجموع الفتاوى].

وقوله: "ترك معصية الله" هذا الترك، ترك عام شامل لجميع المعاصي من أعظمها إلى أصغرها، وأعظم المعاصي الشرك بالله، ثم البدع، ثم بقية الذنوب.
وترك المعاصي أمر شاق، لا يطيقها كل أحد، ولهذا قال ميمون بن مهران: "أعمال البر يعملها البرّ والفاجر، وأما ترك المعصية فلا يقوى عليه إلا صِدّيق".
فالبر والفاجر من الناس يشتركون في حبهم للخير، وبذل أموالهم في ما يُرضي الله من وجوه الخير، أما ترك المعصية فلا يقوى عليها إلا من كان صدقاً مع الله في قوله، وفي عمله، وفي اعتقاده.
وكل إنسان يعلم من نفسه هل هو صدّيق أو لا.

قوله: "على نور من الله" بأن يكون الترك مبني على علم، تركتَ لأنك علمت أن الله نهى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر.

قوله: "رجاء ثواب الله .. مخافة عقاب الله" أي أن يكون ذلك إخلاصاً لله تعالى ورجاءً فيما عنده، وخوفاً منه. لا يكون ذلك رياءً وسمعة، أو أن يكون ذلك الفعل أو الترك لوجود والٍ أو مسؤول عليك.

أيها القارئ الكريم، بعد أن وقفنا على هذا التفسير لكلمة التقوى، هل بقي شيء من الدين لم يدخل في معناها؟!

لا، لا يوجد شيء من الدين إلا وهو داخل في معنى هذه الكلمة.
فإذا عرفنا هذا المعنى؛ علمنا دلالة قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ" [آل عمران: 102]، وعلمنا معنى قوله: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" [المائدة: 27].

وختاماً – أخي الكريم –
إن علاقة حديثي عن التقوى مع ما نعايشه من فتن في هذا العصر - لا سيما الفتنة التي أشعلها كثير ممن ينتسب إلى الصلاح، وكثير ممن جعل الإصلاح شعاراً يطبل فيه - إن العلاقة تكمن في أن هذه الفتن لا بد وأن يُتصدى لها بالتقوى، وأن تُدفع وتُطفأ بالتقوى.
وليس من التقوى أن تُلوى نصوص الشريعة لتهييج الناس، وتأليبهم على ولاة الأمر.
ليس من التقوى أن تُخلع البيعة التي هي عصمة من الوقوع في الفتن.
ليس من التقوى أن تُثار العواطف، بدعوى الظلم، وبدعوى حفظ الحقوق، وبدعوى إنكار المنكر.
إن حقيقة التقوى إنما تكون بالوقفة الصادقة مع الله جل وعلا، بامتثال أوامره، واتباع سنة رسوله، لا أن نتلاعب في نصوص الشريعة ونكيفها على وفق ما تهواه أنفسنا. والله المستعان


وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتبه أبو عبد الله علي سلمان الحمادي
ليلة الثامن من ربيع الأول لعام 1433من الهجرة النبوية
الموافق: 31/1/2012م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) إن أهل البدع والأهواء يحرصون حرصاً شديداً على تسليط سهامهم على العلماء والأمراء، لأن عامة الناس تتمسك بهذين الركنين، فبهما تندفع الفتن، وتستقيم الحياة، وبزعزة الثقة عن هذين الركنين فإن الناس يفقدون ثقتهم فيهما، فحينها يخلوا الجو لأهل الأهواء والبدع في نشر أفكارهم، واستدراج عامة الناس، باسم الدين والإصلاح، وصدق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم حين قال: "دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" رواه البخاري ومسلم.  



السبت، 21 يناير 2012

الصدقُ مع الله

 الصدقُ مع الله

   الحمد لله وكفى، والصلاةُ والسلام على رسوله المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى، وبعد 

   روى النسائي في سننه بسند صحيح أن أعرابياً جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فآمن به وَاتَّبَعَهُ، ثم قال: أُهاجِرُ معك .. فلما كانت غَزوةُ خيبر، غَنِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئا، فأعطاه سهمه من الغنيمة. فقال الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما على هذا اتَّبَعْتُكَ، ولكن اتَّبَعْتُكَ على أنْ أُرْمى إلى هَا هُنا -وأشارَ إلى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ فأموتَ فأَدْخلَ الْجنَّةَ، فقال: «إنْ تَصْدُقِ اللّهَ يَصْدُقْكَ»، ثم نهَضُوا في قتال العَدُوِّ، فأُتِى به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُحْمَلُ، قد أصَابهُ سَهْمٌ حيثُ أشار، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَهُوَ هُوَ» قالوا: نعم، قال: «صَدَقَ الله فَصَدقَهُ».
 
   فهذا الأعرابي جعل الجنة نصب عينيه، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يدخلها، فلما صدق مع الله في عزيمته؛ صدق الله تعالى معه، فأعطاه ما أراد.
   إن الصدقَ مع الله، خلقٌ عظيم، ومطلبٌ جليل، أمر الله به عباده المؤمنين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، أي كونوا مع الذين يصدقون في قولهم وفي عملهم وفي حالهم.
   والصدق مع الله هو رأس الفضائل وأساسها، وضرورةٌ من ضروراتِ الحياة الاجتماعية.

   إن حقيقةَ الصدقِ مع الله تعالى هي الخوفُ منه - سبحانه وتعالى - ظاهراً وباطناً، فتكون الإرادات والأعمال والأقوال؛ كلها محكومة بشرع الله عز وجل، لا تخالطها أهواء نفسية، ولا تخالجها مصالح شخصية، ولا تحكمها نزعات دنيوية، بل المرد في ذلك كله في  المنشط والمكره، والعسر واليسر؛ هو تحقيقُ شرع الله، وامتثالُ أمره.
يقول إبراهيم الخوّاص رحمه الله تعالى: الصادق؛ لا تراه إلا في فرض يؤديه، أو فضل يعمل فيه.
وقال بعض أهل العلم: من لم يؤدِّ الفرض الدائم؛ لم يقبل منه الفرض المؤقت. قيل: وما الفرضُ الدائم؟ قال: الصدق.
فالصدق مع الله هو الطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه؛ كان من المنقطعين الهالكين، فبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأصحاب الجنان من أصحاب النيران .. وهو سيف الله في أرضه الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم تُردّ صولته، ومن نطق به؛ علت على الخصوم كلمته.
فعلينا جميعاً؛؛ كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً، فقراء وأغنياء، تجاراً وموظفين، مربين ومتعلمين، - علينا جميعاً - أن نتحلى بالصدق في القول والعمل والإرادة ... لتعود إلى النفوس الثقة التامة التي تجلب الأمن والحب والسعادة والاستقرار.
وما أجدر المربين أن يربوا أبناءهم وبناتهم على الصدق حتى ينشأوا كراماً مطبوعين على الجرأة والعفة والأمانة.
وليحذر الأباء والأمهات من الكذب على أطفالهم أو أن يعودوهم عليه، حتى ولو كان لإسكاتهم من بكاء، أو تهدئتهم من غضب، فإن ذلك تعويد لهم على أقبح خلق عند الله عز وجل.
فهنيئا لمن صدق في قوله وعمله وحاله، هنيئاً له هذا الفوز العظيم، والنعيم المقيم، والرضى الأبدي، والخلود السرمدي ... جعلنا الله منهم بمنه وفضله ورحمته، إنه رؤوف رحيم جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.