الجمعة، 24 فبراير 2012

بر الوالدين .. فريضة واجبة.. وأمر محتم


بر الوالدين .. فريضة واجبة.. وأمر محتم

بسم لله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد


جُبلتِ النفوسُ على حبِّ من أحسنَ إليها، وتعلقت القلوبُ بمن تفضل عليها، وليس في الناسِ أعظم إحساناً ولا أكثرُ فضلاً من الوالدين، من أجل هذا قرن الله حقهما بحقه، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36]، فله سبحانه العبادة والإخلاص، ولهما حسنُ الرعاية والإحسان، فالإحسان إليهما عظيم،  وفضلهما سابق.

بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين من أفضل الأعمال فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها). قال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين). قال ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) [البخاري]. 

إن برّ الوالدين فريضة لازمة، وأمر محتمٌ، وهو سَعةٌ في الرزق، وطولٌ في العمر، وحسنٌ في الخاتمة، فعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سرّه أن يُمدَّ له في عُمره، ويُوسّعَ له في رزقه، ويُدفعُ عنه ميتة السوء، فليتق الله وليصل رحمه) [أخرجه الحاكم]، ولا شك أن الوالدان أقرب الناس إليك رحما.

وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القضاء إلا الدعاء، وإن الرجل ليُحرم الرزقَ بخطيئة يعملها)[ابن ماجه].
فينبغي على كل مسلم أن يرعى للوالدين حقوقهما لينال هذا الفضل العظيم:
1. وإن من حقهما حسن صحبتهما: فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل من والديك أحد حي؟) قال نعم، بل كلاهما، قال: (فتبتغي الأجر من الله تعالى؟) قال: نعم، قال: (ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).
2. ومنها: أن لا تحدثهُما بغلظة أو خشونةٍ أو رفعِ صوت، وجنبهُما كل ما يورث الضجر، ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]، فتتخيّرُ الكلماتِ الحسنةَ اللطيفة، والعباراتِ الجميلة، والقولَ الكريم، وتتواضعَ لهما، وتخفضُ جناح الذل رحمة وعطفا، وطاعةً وحسنِ أدب.

3. وإن من حقهما؛ المحبةُ والتقديرُ والطاعةُ والتوقير، والتأدبُ والتودد إليهما وصِدق الحديث معهما. وأن تحرص على أن تُحقق رغبتهما في المعروف، وأن تُنفق عليهما ما استطعت، لأنك (أنت ومالك لأبيك)... فأنت مهما عملت فلن تؤدي حقهما: قال رجلٌ لعمرَ ابنَ الخطابِ رضي الله عنه: إن لي أماً بلغ منها الكبر؛ أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطيةٌ فهل أديةُ حقها؟ فقال له عمر: "لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءَك، وأنتَ تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن والله يجزي الكثير على القليل".
4. ومن حقهما: الدعاء لهما حال الحياة وبعد الممات، اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله تعالى ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]. والدعاء والاستغفار لهما باب عظيم من أبواب البر، لأن ذلك يرفع من درجة الأبوين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَنَّى هَذَا فَيُقَالُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ) [ابن ماجه].

5. ومن حقهما بعد الممات: ما أخبر به أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: فيما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بِرِّ أبويّ شيءٌ أَبرُّهما به بعد موتهما؟ قال: (نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصلةُ الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرامُ صديقهما) [أحمد وأبو داود وابن ماجه]. 

وليحذر اللبيب من مغبة عقوق الوالدين، فإن عاقبته وخيمة فإن من برّ بوالديه برّ به بنوه، ومن عقهما عقه بنوه، وكما تَدينُ تُدان، والجزاء من جنسِ العمل. 
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ الذنوبِ يؤخرُ الله منها ما شاء، إلا عقوقُ الوالدين، فإنه يُعجلُ لصاحبه قبل الممات)[أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي].

ومن عقوبة العقوق ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ‏ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى) [أخرجه النسائي].

فإنّ أكبر الكبائر الإشراكُ بالله وعقوقُ الوالدين، في هذا صح الخبرُ عن الصادق المصدوق محمدٍ صلى الله عليه وسلم. 

وثبت من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صعد المنبر فلما ارتقى درجة قال: «آمين»، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: «آمين» فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: «آمين»، فلما نزل قلنا: يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه قال: « إن جبريل عليه الصلاة والسلام عرض لي فقال: بُعدا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بُعدا لمن ذُكرت عنده فلم يصل عليك قلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بُعدا لمن أدرك أبواه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت: آمين». [الحاكم].

إذن أخي القارئ الكريم، أيقن وفقك الله؛ أن البرّ بجميعِ وجوهه زيادة في العمر، وسعة في الرزق، وصلاح في الأولاد، فمن بر بوالديه بر به بنوه، ومن عقهما؛ عقه بنوه، والعقوق خيبة وخسران وخذلان، وعقوبة في الدنيا والآخرة. 

الثلاثاء، 7 فبراير 2012

قيام ليل الشتاء.. غنيمة باردة



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد

أيها الأحبة: 

إنّ قيامَ الليل عبادة عظيمةٌ وعمَل جليل، دأبَ عليها الصالحون من هذه الأمة، ولزم القيام بها الصادقون من أهل هذه الملة، وقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحث عليها ببيان ما لها من فوائد وعوائد حميدة، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه دَأَبُ الصالحين قبلكم وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد" رواه الترمذي. 

وقيام الليل من أفضل الصلوات بعد الصلاة المفروضة فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: "أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة صلاة الليل" رواه مسلم.

وقد مدَح الله عبادَه المؤمنين، فذكر من أخلاقهم الحميدةِ التي نالوا بها بفضل الله جنّاتِ النعيم؛ أنهم كانوا يقومون الليل فقال: ﴿إنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّليْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 15-18]. فوصَفَهم الله تعالى بأنّهم قليلاً ما ينامون لإحياء ليلهم بالصلاة، ويختِمون ليلهم بالاستغفار عمّا قدّموا وأساؤوا.
وقال جلّ جلاله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة:16، 17]، لشدة خوفهم من الله عز وجل؛ تَنَحّت جنوبهم عن مضاجع نومهم، وتوجهوا إلى الله عز وجل في ظلمة الليل سراَ فيما بينهم وبينه بالصلاة والمناجة خوفاً من عذابه، وطمعاً في ثوابه، فأعطاهم الله ذلك الثوابَ العظيم، ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمِعت ولا خطَر على قلبِ بشر، ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.

وصلاة الليل عمل داوم عليه نبينا  صلى الله عليه وسلم ، وكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سُئل عن ذلك، وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً".

وقيام الليل عملٌ يُدخل الجنة، فقد ثبت من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه، أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: "أيّها الناس، أطعِموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّةَ بسلام" رواه الترمذي.

وأخبرَصلى الله عليه وسلم ما لقائمِ الليل في الجنّة من النعيم المقيم، فقال: "إنّ في الجنة غرفًا، يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها"، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لمن أطاب الكلامَ، وأطعَم الطعام، وصلّى بالليل والناس نيام" رواه المنذري في الترغيب والترهيب.

فلنبادر -أحبتي في الله- بالقيام بهذه العبادة الجليلة، ولنغتنم هذه الأجور العظيمة، لا سيما ونحن في فصل الشتاء، الذي يطول في الليل ويقصر فيه النهار، وقد كان سلف هذه الأمة يسبشرون بالشتاء لاغتنام ليله بالقيام، ونهاره بالصيام فهاهو ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام"
وعن الحسن  رحمه الله أنه قال: "ونعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه"

وقال ابن رجب رحمه الله: "قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف، ولهذا بكى معاذ عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر" انتهى كلامه رحمه الله.

فأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لاغتنام هذه الليالي، وأن يعمر أوقاتنا بطاعته وذكره وشكره وحسن عبادته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وكتبه أخوكم/ أبوعبد الله، علي سلمان الحمادي
ليلة الخامس عشر من ربيع الأول لعام ثلاث وثلاثين وأربعمئة وألف.
الموافق7/ 2/ 2012م